ستة أعوام قد لا تشكل شيئاً في مسيرة من يحمل هماً ورؤية كبيرة للتنفيذ بحجم بلد، فكيف إذا كان هذا البلد متخماً بالجراح ويعيش متواليات الصراع منذ نشأته، ولم يتسن لأهله حتى اليوم التوافق على أي قاسم مشترك فبقي الخلاف وتبادل التخوين واحتكار الحق، كما تشكل هذه الأعوام الست أيضاً ما يقارب نصف عمر الانفجار الحالي العظيم والذي قد تستغرق فترة تجاوزه على الأقل ثلاثين عاماً أخرى إذا لم يحدث انفجار جديد يفتت ما بقي منا ويحوله إلى غبار.لم تكن هذه الأعوام سهلة أبداً، بل كانت مليئة بالتحديات والصعوبات التي قبلناها عن طيب خاطر فكانت النجاحات التي تحققت بسبب أساس ثابت وعميق وهو الثقة والاحترام؛ ثقة الآخرين بنا واحترامهم لما نقدمه، واحترامنا لعقولهم وأحلامهم وثقتنا بالقدرة على التغيير انطلاقاً من الدوائر المحيطة بنا إلى الفضاءات الأوسع. 

عزز ذلك اعتقاد راسخ بأن البناء ليس مجرد أحجار ترصف مع بعضها بل إن "البنائية" تعني تداخل أنساق المجتمع وتفاعلها مع بعضها، وتكاملها كل وفق وظيفته لتنتج بناءً راسخاً، وأن غياب نسق أو تغييبه يؤدي حكماً لهشاشة الأساس، وأن الدعامات المستجلبة أو القسرية لن تغني شيئاً عند ساعة الحقيقة بل ستنهار هي والبناء ومن فيه معاً.

لم يكن "البناء الوطني" مجرد اسم أو شعار، بل هو قناعة بأن وطننا لم يبنى بعد، بل صنعت هويته وشكله نتيجة الظروف وردود الأفعال والتدخلات والاجبار واحتكار الشأن العام من القوى المركزية التي شكلت ما يشبه الثقب الأسود المتحكم بحركة كل ما حوله، وأن الانفجار الحالي هو مجرد كاشف لعمق خيباتنا ومشاكلنا وأظهر مقدار تعامينا وذهولنا عن عمق أزماتنا وهول قضيتنا. لهذا فإننا بحاجة لبناء أسس الوطن المشترك ومعالجة القضية الأساسية إلى جانب الأزمات الحالية وفقاُ لمجموع الإرادات الحرة لأهله التي تنتج وحدها القناعة والاعتقاد وإرادة العيش المشترك وهوية الوطن وقيمه العليا المشتركة، وحلول أزماته المرحلية.نتيجة لذلك كانت حركة البناء الوطني حركة اجتماعية تعمل علىى مسارات بناء الهوية المشتركة والبحث فيها، وبناء قدرات الانساق الاجتماعية الغائبة عن ساحة الفعل في الشأن العام والمتمثلة بالمجتمع المدني البنيوي والرؤيوي، وأيضاً بحث ممكنات الوصول للسياسات الأساسية التي تحكم قطاعات العمل في القانون والاقتصاد والإدارة المحلية وغيرها من مساحات الحوكمة فهي مادة المناصرة وجوهرها، فكانت مشاريع الحوار الوطني، و  الشباب في الشأن العام، و  الإدارة المحلية، بناء السلام والمصالحات المحلية، بناء القدرات المدنية،  البرنامج الثقافي التفاعلي، واللقاءات المحلية والمشاركات الخارجية.

 أما العام السادس فكان مضنياً لكنه شكل نقلة نوعية في التفكير وطريقة العمل، قلت فيه الأنشطة ولكنها تكثفت، فكانت ثلاث مسارات أساسية هي: البرنامج الثقافي القائم على نادي السينما التي تحمل قضايا المجتمع بتواتر اسبوعي، و الذاكرة البصرية وحكاياتها وتأملاتها بتواتر شهري، كما تم تنفيذ دورة تدريبية مطولة عن صناعة الفلم القصير بالتعاون مع الأصدقاء الداعمين. 

وأيضا استمر مسار "الأربعاء_السوري" بتواتر نصف شهري كفضاء للحوار ومساحة للرأي والتفاعل وتمحور هذا العام حول تفكيك رؤية "شمل" التي أطلقتها الحركة في بداية العام والتي تبحث في الدور المدني وضرورة وجوده وبرنامجه القائم على محددات الشراكة والمصالحة واللامركزية. 

أما ثالث المسارات وأحدثها فكان العمل على مشروع "البيئة التشريعية للعمل المدني والمجتمعي في سوريا" والذي توزع على حوالي عشرين نشاطا أساسيا من ورشات وجلسات حوار بالإضافة للقاءات والاجتماعات، وتناول بمشاركة عدد من الخبراء والناشطين المدنيين من مختلف الجغرافيات السورية شبكة القوانين التي تنظم العمل المدني من النقابات إلى الاتحادات والغرف فالتعاونيات والجمعيات وبقية مساحات المشاركة في الشأن العام كالإعلام والإدارة المحلية وغيرها، وشكل تحديا فكرياً وعملياً بدمج العمل والتفكير القانوني مع الخبرة والنشاط المدني وصولا لتثبيت الأدوار المدنية الوظيفية والعليا، والتوافق على تصور للوصول إلى مجتمع مدني مستقل وفعال، وانتاج نواة مسطرة المحددات المدنية التي يفترض أن تتم معايرة القوانين على أساسها لتحديد الفجوات ووضع التوصيات ولاحقاً الوصول للسياسات، وفعلا تمت معايرة مبدأيه لستة قوانين أساسية سيتم العمل على تطويرها لاحقاً.

 أما التقرير_اليومي الذي يرصد المواقف والآراء الواردة في مجموعة من الصحف العربية والعالمية حول القضايا الساخنة محلياً وإقليمياً ودولياً فاستمر بالوصول صباح كل يوم إلى أصدقاء الحركة كجزء من مهمتنا بتعزيز الوصول للمعلومة والتحليل، كما تركز الاهتمام أيضاً بإعادة بناء البيت الداخلي وتوزيع الأدوار وترميم الفجوات، فتعلمنا فيه الكثير عن الصبر والتحمل وإدارة الموارد وعن تعزيز الثقة بيننا وبين الناس ففترات الصعاب تكشف معادن العلاقات فتقوي الجدي والعميق وتطيح بالزائف غير المأسوف عليه.

 ننظر إلى العام القادم بثقة وقلوب مليئة بالإيمان بغدٍ أفضل للسوريين، فاشتداد الأزمات سيفعل قطعاً ممكنات انتهائها، ومواجهة الصعاب بالعمل الدؤوب تنتج النجاح، والايمان بالحلم وبالرؤية المشتركة يحول العلاقات إلى شبكة ثقة ومصالح متبادلة تعزز من قيمة أي عمل وتجعل أثره مضاعفاً في مسيرة بناء الوطن السوري المشترك، وبهذا فقط يكون البناء: هوية وانتماء.