منصات الحوار السورية

طرطوس

بعد جلستي السويداء ودمشق أطلقت حركة البناء الوطني جلستها الحوارية الثالثة في مدينة طرطوس يوم الخميس 8 كانون الأول 2016 وذلك ضمن مشروع "منصات الحوار السورية"، تحت عنوان: "بحث الخيارات الاستراتيجية للسوريين".

ضمت الجلسة شخصيات الشأن العام والقوى السياسية والمدنية والثقافية الناشطة في الساحل السوري القادمين من صافيتا ودريكيش وبانياس واللاذقية وجبلة، ودار نقاش غني ومتنوع بين المشاركين وقدم كل منهم رؤيته بالمواضيع المطروحة التي توزعت على أربعة محاور رئيسية وهي: الثقافة والانتماء، شكل الدولة والحكم، الحوكمة، المصالحات وبناء السلام.

توافق الحضور في محور الهوية والانتماء على أن الهوية الوطنية لم تتبلور ولم تأخذ شكلها. فرأى البعض أن السلطة السياسية شكلت سداً أمام هذا التطور سواء بسبب فرض ايديولوجيتها أو لتغييب النخب وتكريسها للهويات الصغرى التي هي هويات افتراضية يجب إنهاء دورها، ولولا المشكلة السياسية لم تطرح هذه القضايا حيث أن الأزمة الحالية كاشفة للمشكلة وليست منشئة لها. فالإنسان بطبعه يبحث عن الانتماء وعند رفع الغطاء السياسي وغياب حماية الدولة يذهب للهويات الصغرى خاصة أن الدولة فشلت بإنتاج هوية وطنية بل إنها حاربتها، والبعث لم يقدم توصيفاً للهوية السورية وعلينا اليوم إنتاج رؤى خاصة بنا بعيداً عن التجارب المستوردة للانتقال من دولة الرعاية والمكرمات والشعارات الفضفاضة.

ورأى البعض أن الهويات الكبرى كالقومية العربية وهم، بينما الإنتماء السوري، بكل بساطة، هو الإنتماء المشترك الذي يجمعنا كلنا، بينما رأى آخرون أننا لسنا بحاجة للتخلي عن هذه الهويات الكبرى بل العمل على نقدها وتنقيتها، والهوية السورية ليست مناقضة للهويات الأخرى بل هي خلاصة لها، ولايمكن الأخذ بالنظرية القومية الكلاسيكية بحد ذاتها بل لابد من تطويرها بإشراك الآخر في البناء القومي وبكل الأحوال لايمكن تحقيق الانتماءات القومية دون تحقيق الهوية الوطنية عبر الدستور.

وتمت الإشارة إلى أنّ هناك دولاً غير قائمة على أمة واحدة كاستراليا وكندا، تكون فيها الهوية هي المواطنة وهذا النموذج العلماني الليبرالي ناجح لأنه قادر على استيعاب الآخر. فدولة المواطنة نتاج حضاري عالمي ونحن نتمسك بها ومن الضروري إشباع الفضاء العام بقيم الحرية والقانون.

ونوه الحضور إلى أنه لابد من الجرأة لنقد العقل السائد ومناقشة المسلمات حيث أنها الخطوة الأولى نحو الحل لتأسيس عقد اجتماعي جديد، كما أن تجاهل الهويات الصغرى لا يسهم بالحل بل الاعتراف بها واستيعابها والعمل عليها وتكريس الانتماء المنطقي الناتج عن العلم والمعرفة في دولة القانون فالمشكلة مشكلة عقل وفكر غائب.

أما عن شكل الدولة والحكم بدأ الحديث بالتفريق بين الدولة الحديثة والدولة الحداثية التي هي بالضرورة رأسمالية والسلطة فيها ديمقراطية قائمة على المجتمع المدني بينما الدولة الحديثة التي ليست بالضرورة حداثية تكون قائمة على الاقتصاد الريعي والسلطة الاستبدادية والمجتمع الأهلي.

وعن النظام السياسي فالمطلوب اليوم نظام حكم مختلط رئاسي برلماني يسمح بالتعددية السياسية ويضمن في نفس الوقت قدراً من المركزية اللازمة في مرحلة الأزمات.

إن الانتقال للدولة الحداثية الديمقراطية العلمانية مرتبط بمدى قابلية السلطة القائمة للتغيير وصناعة بدائل معارضة حقيقية، فالدولة رهان اجتماعي بين القوى المتصارعة في المجتمع وهذا الصراع هو بالأساس اقتصادي وليس سياسي، فالاقتصاد محرك الحياة الاجتماعية لذا لابد من تحديد شكل الاقتصاد، وهناك ضرورة للعمل من القاعدة وبناء الوعي عند الناس فالدولة التي تعطيك الاحترام تصبح دولتك.

بدأ اليوم الثاني بمحور الحوكمة ودار النقاش حول أولوية الإصلاح الإداري أم السياسي ففي حين اعتبر البعض أن الإصلاح السياسي هو الأساس ركز آخرون على أهمية الإصلاح الإداري من أجل بناء الكوادر والطاقات وثقافة العمل بينما كان هناك رأي اعتقد بالمزاوجة بين الطريقين والسير بهما معاً ضمن مرحلة انتقال سياسي شامل فالإصلاح إما أن يكون متكاملاً في كل القطاعات وإلا فإنه محكوم بالفشل.

وعن دور التقانة والمعلومات تناول النقاش سبل الوصول للحكومة الإلكترونية فهناك دول أصبحت فيها أكثر من 70% من معاملات المواطنين تدار الكترونياً، ولكن هناك مشكلة أساسية تتعلق بالبيانات والمعلومات الضرورية لصانع القرار فلا يوجد مراكز دراسات وقاعدة بيانات متكاملة وبنك المعلومات لم يتم إنجازه وبحاجة لإرادة سياسية، وليس هناك تمويل كاف له.

وتطرق الحديث لأهمية اعتماد الكفاءة أساساً للتعيين وليس الولاء والدراسات الأمنية وضرورة وضع معايير سورية للإنتاج ومؤشرات قياس لأداء القطاع العام.

كما دار نقاش مطول حول موضوع الحكم المحلي واللامركزية الإدارية وقانون الإدارة المحلية فهناك ضعف في الكوادر القادرة على تحمل مسؤوليات اللامركزية الإدارية، لذلك يمكن العمل على تخطيط لامركزي وتنفيذ مركزي. وهناك ضرورة ملحة لتعزيز شبكة الاتصالات وتبادل المعلومات بين المركز والمناطق وضمان تبادل المعلومات الأساسية لإتخاذ القرار على المستوى المحلي. وقانون الإدارة المحلية بحاجة لتفعيل فالمجلس الأعلى للإدارة المحلية مثلاً لم يجتمع بشكل جدي.

وهناك معضلة حقيقية في قانون الانتخاب القائم على النظام الأغلبي الذي يسمح فقط بوصول التحالفات الكبرى والحيتان ويمنع وصول القوى الناشئة والمستقلة، مما سبب عزوفاً كبيراً عن المشاركة فنسبة المشاركة في الانتخابات البلدية كانت دائماً ضئيلة لذلك لابد من اعتماد قانون قائم على النسبية يسهم في ترسيخ التعددية.

كما أن اللامركزية ضرورية جداً من أجل إعادة التوزيع السكاني بدلاً من تكدسه في المدن الكبرى غير القادرة على تأمين الموارد المائية والغذائية، فنحن في مرحلة نضوب الطاقة والمياه ومع ذلك نجد قرى كاملة تحولت طبيعة الحياة فيها لتصبح معتمدة على إنتاج غيرها من المواد الأولية والغذاء بعد أن كانت منتجة له والاقتصاد المحلي جزء أساسي من تجاوز الأزمة وبناء الشكل الاقتصادي للدولة.

وتم التركيز على دور الإعلام وتطويره ضروري خصوصاً في ظل ترهل الإعلام الرسمي وابتعاده عن الواقع فمثلاً لم يكن الإعلام الرسمي المحلي في طرطوس واللاذقية على علم خلال الجلسة بكل ماحدث في اليوم السابق لمجلس محافظة اللاذقية وتعيين مجلس جديد لها.

والحامل الرئيسي المجتمعي للامركزية الإدارية هو المجتمع المدني الحقيقي الفاعل. ومن هنا نجد ضرورة التوجه للنقابات وغرف التجارة والصناعة والراوبط المهنية وإعادة دورها الحقيقي وإخراجها من سلطة السياسة فالسلطة احتكرت النقابات وحتى الرياضة وصنعت عدواً وهمياً اسمه المجتمع المدني. وهناك ضرورة لوضع قانون جديد يرعى منظمات المجتمع المدني ويسهم بتطوير عملها فصلة المجتمع المدني بالتحول الديمقراطي أساسية خصوصاً أنه لا يسعى للسلطة بعكس الأحزاب السياسية. ولابد أن تتم كل ورشات المجتمع المدني في الداخل.

وللمجتمع المدني الدور الرئيس في مكافحة الفساد عبر رقابته الشعبية وليس هناك حاضنة للفساد ضمن المجتمع وليس هناك شعب فاسد وشعب جيد بل قوانين جيدة ومعمول بها أو قوانين لا تطبق و أهمية معالجة الفجوة الكبيرة بين القانون وتنفيذه والتي تتعلق بالمهارات والقدرات والقرار السياسي.

وتم التركيز على أهمية التوجه لطبقة الفاعلين اقتصادياً والعمل على تنويع مصادر الاقتصاد فالسياحة ليست اقتصاداً حقيقياً بل الصناعة والزراعة، والحاجة للبرنامج الوطني للحد الأدنى ووضع الطموحات البسيطة القابلة للتحقيق بدون أوهام، وبكل الأحوال فالعمل الجدي والدؤوب والمستمر هو الذي يحقق النتائج فالحقوق تأخذ ولا تمنح.

وضمن محور المصالحات الذي يعتبر خلاصة للمحاور السابقة فالمصالحة الوطنية لاتتم إلا عبر برنامج طويل ومعمق يتناول كل نواحي الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية وخصوصاً الإجتماعية فالعودة لحضن الوطن تعني العودة للمجتمع، فالمجتمع هو الوطن ولايتعلق الأمر فقط بقوانين وتشريعات بل بمبادرات مجتمعية وتنمية اقتصادية متوازنة وهامش من الحريات ليستطيع المجتمع تضميد الجراح. وأن تكون المسامحة للجميع من كل الأطراف هي الحل مع التعويض وإقامة لقاءات وورشات المسامحة والمصالحة والاستماع وللإعلام الدور الهام في هذا المجال فهو أحد أهم حوامل المصالحة في مجتمعنا المفكك. 

والسؤال المهم هو كيف نعيش بعد الكارثة التي حلت بنا بدون العمل على شكل الدولة ووضع عنوان للاقتصاد وتغيير الفكر الأمني وتطوير الإعلام وتحقيق الأمان والأمن الداخلي فالأمان الخارجي لايستمر وهو ساقط لامحالة.

كما أن العامل الأهم في المصالحة هو عامل (الثقة / الخوف) فلابد من كسر الخوف وتحقيق الثقة عبر المبادرة والجرأة بطرح المشكلات وعدم الخوف من المواجهة فمصلحة الناس هي بمحاسبة المفسدين، وضرورة العمل على الأرض مع الناس فمساحة المجتمع المدني هي المساحة الأكبر لتحقيق مصلحة الناس، وهناك تجارب لناشطين محليين كسبوا ثقة الناس بالحملات المحلية والرياضية وتم اعتقالهم ولكن الناس وقفت معهم وتابعوا عملهم.

نحن في وضع كارثي ولابد من مقاربة موضوعية وعاجلة تتعامل مع الحالة الإسعافية ومن الصعوبة طرح كل الممكنات والخيارات دفعة واحدة فالإسعاف المبكر بحاجة لإنعاش مبكر وبعدها نتعامل مع العلاج طويل المدى.

والتعامل مع المقاتلين من الجهتين حتى لايرجعوا للعمل المسلح واستيعابهم وتحويلهم للعمل الاقتصادي ليصبحوا جزءاً من دورة الحياة بدلاً من العودة للعمل المسلح.

القيادات السياسية التاريخية سقطت ونحن ذاهبون للأمام بجيل الشباب وتبقى الحرية السياسية هي السؤال الأساس، الدولة بشكلها الحالي هي جزء من المشكلة وضرورة صناعة هوية الدولة عبر ميثاق وطني تاريخي.

وكان هناك رأي لحزب البعث أكد على الإحترام العالي والتقدير للمعارضين الوطنيين القدامى ومواقفهم الوطنية المتميزة البعيدة عن الثأرية والكيدية خلال الأزمة، وأكد على أهمية مثل هذه اللقاءات مع التأكيد على ضرورة إشراك جميع الأصوات من قوى مجتمعية وأحزاب في عملية الحوار واحترام الرأي والرأي الآخر، فأهم شيء اليوم هو التأسيس لمنع تكرار ما تعرضنا له والاستفادة من الدروس التي حصلت، وهناك تجار حرب ومراكز نفوذ علينا العمل على تفكيكها.

كما أكد على الاهتمام بالتربية في المدارس والمنازل والابتعاد عن النفاق والتكاذب المجتمعي وتفعيل دور الأحزاب التنويرية والاجتماع بالفقراء والمهمشين وأن يكون الحل شفافاً وفكرياً والعمل على إصدار قوانين دقيقة بعيدة عن التأويل بمشاركة قوى المجتمع وضمان سيادة القانون وتعيين إدارات بمعايير تعتمد الفهم والرجولة والجرأة فمشكلتنا هي في آليات العمل. 

يذكر أن هذا هو اللقاء الثالث الذي تعقده الحركة ضمن مشروع بحث الخيارات الاستراتيجية للسوريين وسيتم عقد لقاءات حوارية أخرى في بقية المحافظات السورية وفي كل أماكن تواجد السوريين.